أحمد المسلماني يكتب.. وكالة الفضاء المصرية

احمد المسلمانياحمد المسلماني
قبل سنوات التقيت عددًا من خريجي قسم هندسة الطيران في جامعة القاهرة، يطلبون دعمهم في الحصول على فرصة عمل، قال لي أحدهم: "لقد درسنا هندسة الطيران وعلوم الفضاء ولكننا تعبنا من البحث عن عمل.. وبدلاً من العرق في المصانع يتصبب العرق منّا في الشوارع"!.
إن كلية الهندسة جامعة القاهرة التي تأسست قبل قرنين من الزمان في عام 1820 لم يتم استثمارها ولا استثمار غيرها على النحو الطبيعي لبناء المشروع الحضاري المصري.
واليوم ألتقي باستمرار مئات الطلاب من جامعة القاهرة.. كل جدول أعمالهم يتعلق بالصراع السياسي في مصر.. إن واحداً منهم لم يتحدث عن التعليم ولا العلم ولا البحث العلمي، ولقد تراجعت "المنافسة" التي طالما لازمت طلاب جامعة القاهرة تجاه الجامعات الكبرى في المنطقة والعالم.. وتحولت "المنافسة العلمية" إلى "صراعات سياسية".
التنافس المحموم بين السلطة والمعارضة على إفساد الحياة الجامعية أدى إلى إحباط مشروع حقيقي للنهضة في بلادنا
ومن المؤسف أن تكون عناوين الصحف والفضائيات القادمة من الجامعة دائرة في مجملها حول المظاهرات والمسيرات.. وأنه تتوالى مستجداتها حول الاعتصامات والاقتحامات، بينما عناوين جامعة في إسرائيل مثل "معهد التخنيون" تدور حول إطلاق كلية الهندسة لثلاثة أقمار صناعية بحلول عام 2015.
وتقول الصحف إنها المرة الأولى التي تجري فيها محاولة إرسال ثلاثة أقمار صناعية معاً في تشكيل محكم.. وتجري كلية هندسة الفضاء في "التخنيون" أبحاثًا لإطلاق الأقمار الصناعية ذات المكونات المنفصلة والتي تتجمع بمجرد تواجدها في الفضاء بشكل دقيق وتتصل فيما بينها لاسلكيًا لتكون قمر صناعي كامل!.
إن كلية الطب في جامعة القاهرة تأسست عام 1827 وبعدها تأسست كليات العلوم والصيدلة.. ولكن بلادنا لاتزال مستهلكًا أساسيًا للدواء.. ونسبة براءات الاختراع المصرية في وطن يعاني نصف سكانه من أمراض متنوعة هي نسبة لا تذكر.. بينما معهد "التخنيون" في إسرائيل أطلق اختراعات متعددة في مجال الدواء.. وتحتل شركة "تيفا" الإسرائيلية لصناعة الأدوية مركزًا مهمًا بين شركات الأدوية في العالم، ولديها سلسلة أدوية مكونة من أكثر من ألف مركب، ووصلت مبيعاتها عام 2012 إلى أكثر من 20 مليار دولار!
إن الجامعات في كل العالم هى قاطرة النهضة وقائدة التنمية، وفي كل العالم المتحضر لا تعمل الجامعات في السياسة بل تعمل في العلم والمعرفة.. ويعمل بعض خريجيها في السياسة، ولا يكون النشاط السياسي لطلابها نشاطاً احترافياً.. بل مجرد ثقافة سياسية ومشاركة مسؤولة وتعبير منضبط.. ولا يطغى ذلك كله على الوظيفة الأساسية للطالب والجامعة.
ولقد سبق أن كتبت وتحدثت عن ضرورة أن تطلق كلية الهندسة جامعة القاهرة قمراً صناعياً وأن تُنشئ كلية العلوم مفاعلاً نووياً.. وأن تواصل باقي الكليات رفع مستوى الجامعة إلى مستوى الماضي ثم رفعها إلى مستوى المستقبل.. ولكن تهافت الطبقة السياسية والتنافس المحموم بين السلطة والمعارضة على إفساد الحياة الجامعية قد أدى إلى إحباط مشروع حقيقي للنهضة في بلادنا.
إنه لمن المحزن أن تغرق الجامعات المصرية في أوحال السياسة في الوقت الذي تتوالى فيه إنجازات الجامعات حول العالم.. وكان بعضها ينظر إلى جامعاتنا من أسفل صار الآن ينظر إليها من أعالى الجبال.
ففي جنوب إفريقيا قام الطلاب في معهد جنوب إفريقيا للتكنولوجيا ببناء قمر صناعي مصغر يجري إطلاقه قريبًا لأغراض الطقس.. وفي الهند نجح طلاب جامعة ANNA في إطلاق القمر ANNASAT وهو أول قمر صناعي يتم إنشاؤه وتصميمه في جامعة هندية بواسطة الطلاب.
بعض جامعات العالم كان ينظر إلى جامعاتنا من أسفل وصار الآن ينظر إليها من أعالى الجبال
ولقد كان صادماً تماماً بالنسبة لي.. أن أتابع أنباء مظاهرات الطبول في جامعة القاهرة للتشويش على المحاضرات.. وأقرأ في الوقت ذاته عن نتائج إطلاق جامعة في شرق غانا ALL Nations University القمر الصناعي CANSAT عام 2013، واستعداد الجامعة لإطلاق قمر صناعي متطور في عام 2015.
إن استرجاع صفحات التاريخ المعاصر يزيد من الألم الوطني إزاء حالة الإنكسار الحضاري في بلادنا.. لقد بدأت مصر مشروعاً طموحاً قبل أكثر من نصف قرن لأجل تصنيع الطائرات والصواريخ وإطلاق أول قمر صناعي في منطقتنا.
ولقد عرضت في كتابي "مصر الكبرى" شهادة الدكتور "بهى الدين عرجون" في كتابه "الفضاء الخارجي واستخداماته السلمية"، وهى الشهادة التي جاء فيها أن مصر بدأت بالتعاون مع الخبراء الألمان في تطوير الصواريخ.
ولقد كان من الممكن تطوير الصاروخ المصري "الرائد" ليصل إلى حد خرق نظام الجاذبية الأرضية وحمل قمر صناعي إلى مدار حول الأرض، ولم تكن إسرائيل وقتها تملك صناعة صواريخ على الإطلاق.. وانطلقت على إثر ذلك حملة إرهاب العلماء الألمان في مصر.. ثم كان عدوان 5 يونيو 1967.
وفي الثاني من أكتوبر عام 1967 تحدث العالمان الألمانيان "بيلز" و"بروان" إلى مجلة "شتيرن" الألمانية وقالا: "كانت إسرائيل تخشى إطلاق قمر صناعي مصري في ذلك الوقت حتى لا يحدث دوى هائل في العالم بأسره.. ويجتمع العالم العربي خلف مصر".
لقد مر نصف قرن كامل ما بين عامي 1963 – 2013، ولايزال انطلاق المشروع الحضاري لبلادنا متعثرًا.. بل إن المسافة لتزيد بين مشاهد وقوف الطلاب إجلالًا لأستاذهم عالم الطبيعة النووية الدكتور مصطفى مشرفة، وبين مشاهد اقتحام الطلاب لقاعات المحاضرات وإسقاطهم لعَلَم بلادهم.
لقد حان الوقت لنزع سلاح التردد في مصر.. حان الوقت لتدمير أسلحة السخرية من كل شئ والضحك على كل شئ.. وهى الأسلحة التي حولت كافة الأفكار والرؤى إلى "إفيهات" و"نكات" على صفحات فيس بوك وحسابات تويتر.
لقد سبقت محاولات مجيدة في تجربة "القمر المصري" – "ايجيبت سات" غير أن انقطاع الإتصال بالقمر ذات يوم جعل من ألسنة الساخرين خنجرًا مسمومًا في قلوب العلماء والمهندسين الذين وجدوا أنفسهم في مرمى سلاح "التبكيت" و"التنكيت".
ولكن أحدًا في دولة غانا لم يصوب نيران السخرية والازدراء تجاه الجامعة التي أطلقت القمر الصناعي الأول.. رغم سرقة كافة أوراقه ورسومه من الأرض وخطف القمر نفسه من الهواء!، وإنما أيّد مواطنو غانا البسطاء تجربة جامعتهم وإعلانها إطلاق قمرها المتطور بعد عامين.
ثمة أخبار جيدة في بلادنا.. ولكنها تحتاج إلى ثقة ودعم، حيث يشارك باحثون من كلية الهندسة جامعة القاهرة وباحثون من "الهيئة القومية للاستشعار عن بعد" في الإعداد لإطلاق أول قمر صناعي مصري مائة في المائة من فئة "النانو" قريباً.
حان الوقت لتدمير أسلحة السخرية من كل شئ والضحك على كل شئ
وقد تحدثت كثيراً مع زميلي الدكتور عصام حجي، المستشار العلمي لرئيس الجمهورية، حول تأسيس "وكالة الفضاء المصرية".. وقد أبلغني الدكتور حجي أن مشروع تأسيس الوكالة سيكون جاهزاً للعرض على الرئيس عدلي منصور قريباً.
إن الاضطرابات السياسية في الجامعة تصيب الحاضر وتقتل المستقبل.. وإن تلاعب التيارات السياسية بأفضل أجيال مصر من أجل تقديمهم قرباناً على طريق السلطة لهو خيانة للدين والدنيا.
إن استهلاك طاقة المستقبل في إعادة تدوير مخلفات الماضي لن يخدم إلا أعداءنا.. ذلك أن الهتافات والشعارات والأكُفّ المرتفعة بالتحريض والكراهية إنما تغذي "الأخبار" وتحرق "الأحلام".. إنها تحقق الفائض في "السياسة" والعجز في "الإقتصاد" وفي قولة واحدة، "إن تأسيس وكالة الفضاء المصرية هو نقلة كبرى في صناعة الأمل".

أخر تعليقات بعالم العرب